علماء الفلك يتمكنون من إكتشاف مصدر جسيمات “النيوترينو” عالية الطاقة التي تصطدم بالأرض

تمكن علماء الفلك أخيرا من اكتشاف مصدر جسيمات غامضة عالية الطاقة و التي اصطدمت بشكل مباشر بالأرض في العام الماضي .و يبدو أن هذه الجسيمات الدقيقة ، المعروفة باسم “النيوترينو” ، قد أتت من ثقب أسود شديد النشاط يقع على بعد 4 مليارات سنة ضوئية.

و هذه هي المرة الأولى التي يحدد فيها الباحثون الأصل المحتمل لأحد هذه الجسيمات عالية الطاقة ، مما يجعل العلماء أقرب إلى حل لغز تم وضعه منذ أكثر من قرن من الزمان حول ماهية الجسيمات دون الذرية مثل النيوترينو و كذلك ارتباطها بالأشعة الكونية.

و قدمت الورقتان البحثيتان التي تم نشرهما أمس في مجلة ساينس العلمية لأول مرة دليلاً على تحديد هذا المصدر المعروف لجسيمات النيوترينو عالية الطاقة و التي تم رصدها من قبل مرصد “IceCube” المدعوم من مؤسسة العلوم الوطنية في الولايات المتحدة .

و يقول “فرانسيس هالزن” ، أستاذ الفيزياء بجامعة ويسكونسن ماديسون ، والعالم الرائد في المرصد : “إن الدليل على ملاحظة أول مصدر معروف للنيوترينوهات عالية الطاقة و الأشعة الكونية مقنع للغاية”.

و في شهر سبتمبر من العام الماضي  ، اكتشف الباحثون العاملون في مرصد “IceCube”  و الذي يقع بالقرب من القطب الجنوبي وجود نيوترينو فائق الطاقة في الجليد . هذه الجسيمات سريعة الحركة غالباً ما تمر مباشرة عبر الأجرام السماوية مثل كوكبنا دون أن تترك أي أثر على وجودها.

ولكن يشير علماء الفلك الى أن هذا النيوترينو الزائر يمثل سلالة نادرة: فقد اصطدم في الواقع بالجليد ، تاركا وراءه دربًا تمكن الباحثون من قياسه باستخدام المرصد. وبعد ذلك ثم تحرك الفريق بسرعة لرصد رقعة السماء التي أتى منها الجسيم.

و في تلك الرقعة ، وجدوا أثرا محتملا للنيوترينو : مجرة زائدة النشاط ذات ثقب أسود فائق الكتلة في مركزها. و يُعرف هذا النوع من المجرات باسم “blazar” ، مما يعني أن قلب الثقب الأسود يقوم بإطلاق الإشعاعات في اتجاه الأرض.

و يعتبر هذا الاكتشاف المفصل في مجلة “ساينس” ، بمثابة دليل قوي على أن النيوترينو نشأ من هذا الثقب الأسود. ويعد هذا اختراقا هائلا لأن علماء الفلك لم يتمكنوا قط من تحديد مكان النشأة المحتمل لمثل هذه الجسيمات ذات الطاقة العالية من قبل.

خصائص النيوترينو 

Screenshot_14.jpg

إذا عرفنا من أين تأتي النيوترينوهات ، فقد يتمكن العلماء من استخدامها كأدوات لفحص الكون. و يعتقد في المجتمع العلمي أن النيوترينو ينشأ داخل بعض أكثر الظواهر تطرفًا في الكون ، مثل النجوم المحتضرة ، الثقوب السوداء والمجرات المتصادمة. و من خلال هذا ، يمكن للعلماء الفلك استخدام هذه الجسيمات بنفس الطريقة التي نستخدم فيها الأشعة السينية للنظر داخل أجسادنا.

و يقول “دون ويليامز” ، أستاذ الفيزياء والفلك في جامعة ألاباما وأحد أعضاء فريق “IceCube” الذي حقق هذا الاكتشاف ، لموقع “ذا فيرج”  : “من خلال البحث عن النيوترينو ، يمكننا معرفة المزيد حول ما يجري في الكون “.

و على الرغم من كل هذا الحماس ، فإن تسخير قوة النيوترينو أمر صعب ، حيث يعتبر من الجسيمات الأكثر غموضا في الكون. فهي أخف جسيم أساسي نعرفه ، ولكن على عكس الجسيمات الأخرى مثل الإلكترونات أو البروتونات ، فإن النيوترونوهات لا تحتوي على شحنات كهربائية ، لذا فهي لا تتأثر ببعض الظواهر الفيزيائية مثل الحقول المغناطيسية.

و في الواقع ، هي بالكاد تتأثر بأي شيء على الإطلاق. و يمكن أن تسافر النيوترينوهات في خط مستقيم عبر الكون ، وتغطي مسافات شاسعة ، دون الانحراف عن مسارها. فهي صغيرة جدًا بحيث تمر فقط عبر الكواكب والنجوم والمجرات مثل أشباح ضآلة. ( انهم يمرون بك الآن و تشير تقديرات علماء الفلك إلى أن تريليونات من النيوترينو تمر عبر جسم الشخص كل ثانية).

لكن ما تفتقر إليه هذه الجسيمات في الحجم تعضوه في الطاقة. ويعتقد علماء الفلك أن النيوترينو يتم إنشاؤه أثناء عمليات حيوية نشطة مثل تفاعلات الاندماج النووي ، والتي ترسل هذه الجسيمات متدفقة بسرعة قريبة من سرعة الضوء. إذن كل الظواهر التي نعرفها من انفجار النجوم إلى القنابل النووية يمكن أن تخلق هذه الأشياء الصغيرة الغامضة . ويعتقد أيضًا أن معظمها قد نشأت بعد الانفجار العظيم و منذ ذلك الوقت و هي تسبح في الكون.

و قبل اليوم ، حدد علماء الفلك ثلاثة مصادر مختلفة للنيوترينوهات التي تمر عبر الأرض بانتظام. حيث التقطوا هذه الجسيمات القادمة من داخل النظام الشمسي ، كما تم رصدها أحيانًا عبر الغلاف الجوي للأرض. كما ان أنواع أخرى من هذه الجسيمات النشطة تأتي من خارج مجرتنا (الأشعة الكونية ).

مرصد “IceCube” 

Screenshot_6.jpg

بما أن النيوترينهات تعتبر جسيمات غامضة و التي يطلق عليها أحيانا اسم (الجسيمات الشبح) ، فقد تحتاج نوعًا خاصًا من المراصد لإكتشافها .  ويعتبر مرصد “IceCube Neutrino Observatory” بالقرب من القطب الجنوبي أحد أفضل المرافق العلمية لتحقيق هذا الإنجاز.

و يتكون المرصد من آلاف المستشعرات الحساسة للضوء والموجودة في الصفائح الجليدية القادرة على قياس النيوترينهات النادرة جداً التي تصطدم فعليًا بالأرض. و يقول “إريك بلاوفوس” ، أستاذ الفيزياء في جامعة ماريلاند وعضو فريق “IceCube” : ” هذه الجسيمات لديها احتمال ضئيل للغاية للتفاعل. و لهذا السبب يتعين علينا بناء مثل هذه الآلة الكبيرة في القطب الجنوبي”.

في كثير من الأحيان ، لن يمر النيوترينو عبر كوكبنا فقط ، ولكنه سيشغل جزءًا من ذرة في جليد القطب الجنوبي. وعندما يحدث ذلك ، فإنه يدمر نواة الذرة بشكل أساسي ، مما يخلق انبعاثا من الضوء الأزرق ينتقل عبر الجليد الشفاف. هذا الدش الخفيف هو ما يكتشفه المرصد. و اعتمادا على الدرب الذي يسلكه ، يتمكن علماء الفلك من معرفة طاقة النيوترينو و الاتجاه الذي تمر مرت عبره.

و كان العلماء في السابق يتوقعون أن يرصدوا جسيمات النيوترينو من خلال الغلاف الجوي . لكن في عام 2013 ، لاحظ علماء الفلك أنهم كانوا يلتقطون جزيئات كانت أكثر حيوية بملايين المرات من تلك التي أنتجتها الشمس أو حتى من المُسْتَعِرُ الأعظم. هذه النيوترينوهات عالية الطاقة كانت أندر من الأنواع الأخرى أيضا: يقدر مرصد “IceCube” أن يلتقط حوالي 10 من هذا النوع كل عام. و قبل هذا الاكتشاف كان العلماء يشككون بقوة في أن هذه الجسيمات تأتي من خارج نظامنا الشمسي و المجرات البعيدة.

النيوترينو الذي تم رصده في سبتمبر يمثل واحدًا من أنواع جسيمات الطاقة العالية هذه. وعندما تم اكتشافها “IceCube” ، أرسل الفريق على الفور تنبيهًا إلى التلسكوبات الأخرى لمعرفة ما إذا كان بإمكانه العثور على مصدر الجسيم. و حدد فريق “IceCube”  للفلكيين في المراصد الأخرى جزء من السماء التي يعتقدون أن النيوترينو قادم منها حتى يتم توجيه تلسكوباتهم نحوها.

الحاجة الى المزيد من الدراسات

و شارك في هذه العملية ما يقرب من 20 من التلسكوبات الأرضية و الفضائية . اثنان منها ، وهما تلسكوب “فيرمي” التابع لناسا وتلسكوب “ماجيك” في جزر الكناري ، قاما بقياس موجة كبيرة من أشعة غاما عالية الطاقة القادمة من نجم زائف متوهج (blazar). و أشارت النتائج إلى أن “blazar” كان يرسل مواد نشطة للغاية وقت الاكتشاف ، وأنه ربما يكون قد أرسل النيوترينو كذلك.

بعد ذلك ، قرر فريق “IceCube” البحث في الأرشيف لمعرفة ما إذا كان لديهم أي دليل آخر لدعم هذا الأمر. ووجد الباحثون أنه بين عامي 2014 و 2015 ، التقط المرصد مجموعة من النيوترينوهات القادمة من هذه المنطقة نفسها من السماء.

لكن كل هذا لا يثبت الظاهرة بشكل حاسم ، لكنه لا يزال أفضل تفسير حتى الآن. يقول “ويليامز”: “سنحتاج إلى إجراء المزيد من الملاحظات للحصول على المزيد من الاكتشافات ذات الدلالة الإحصائية”…  “ولكن الأمر كله مثير للغاية لأن هذه عمليات تحقق مستقلة ، ولم نشاهد أبدًا هذا القرب من العلاقة بين أشعة غاما و النيوترينو من قبل”.

و يأمل فريق “IceCube” في القيام بمزيد من التعاون في مثل هذا الأمر عبر تنبيه التلسكوبات الأخرى للإشارة إلى الاتجاه الذي أتت منه النيوترينوهات. و يُعرف هذا باسم “multimessenger astronomy”، وهي طريقة يتم فيها استخدام نوعين مختلفين من الإشارات – الضوء والنيوترينو – لتأكيد مصدر الجسيمات في الفضاء.

وقال “ديريك فوكس” ، أستاذ علم الفلك في جامعة ولاية بنسلفانيا : “من خلال توفير تلك القدرة للتركيز على بقعة معينة من السماء في وقت معين ، فإننا نزيد من حساسية الرصد ، و هذا يضاعف من من فرص تحقيق إكتشفات جديدة” .

كما قد يزيد ذلك من فرص العثور على مصادر أخرى لـ النيوترينو  في المستقبل. وربما في يوم من الأيام ، يستطيع علماء الفلك مراقبة الأجسام البعيدة بطريقة جديدة وذلك من خلال دراسة الجسيمات الأساسية الغريبة التي تنبعث من النجوم و الأجسام البعيدة ويصل مداها الى الأرض.


اقرأ أيضا


إنطلاق عملية ترقية مصادم الهدرونات الكبير لتحسين قدراته على تحقيق المزيد من الإكتشافات حول النظريات القياسية للكون

المصادر : 12

3 تعليقات

    التعليقات معطلة.